فصل: فصــل في تَكَلُّم أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي في كتاب ‏(‏ختم الولاية‏)‏ بكلام مردود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/قال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ‏:‏

 فصــل

تكلم طائفة من الصوفية في ‏[‏خاتم الأولياء‏]‏، وعظموا أمره كالحكيم الترمذي ـ وهو من غلطاته، فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي، فإنه كثير التخليط، لاسيما في الاتحاد ـ وابن عربي وغيرهم، وادعى جماعة كل واحد أنه هو، كابن عربي، وربما قيده بأنه ختم الولاية المحمدية، أو الكاملة، أو نحو ذلك، لئلا يلزمه ألا يخلق بعده لله ولي، وربما غلوا فيه، كما فعل ابن عربي في فصوصه فجعلوه مُمِدا في الباطن لخاتم الأنبياء، تبعًا لغلوهم الباطل، حيث قد يجعلون الولاية فوق النبوة، موافقة لغلاة المتفلسفة الذين قد يجعلون الفيلسوف الكامل فوق النبي ‏.‏

وكذلك جهال القدرية، والأحمدية، واليونسية، قد يفضلون شيخهم /على النبي، أو غيره من الأنبياء، وربما ادعوا في شيخهم نوعًا من الإلهية‏.‏

وكذلك طائفة من السعدية‏:‏ يفضلون الولي على النبي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر، وكذلك غالية الرافضة، الذين قد يجعلون الإمام كان ممدًا للنبي في الباطن، كما قد يجعلونه إلهًا، فأما الغلو في ولي غير النبي حتى يفضل على النبي، سواء سمى وليًا أو إمامًا، أو فيلسوفًا، وانتظارهم للمنتظر الذي هو‏:‏ محمد بن الحسن، أو إسماعيل بن جعفر، نظير ارتباط الصوفية على الغوث، وعلى خاتم الأولياء، فبطلانه ظاهر بما علم من نصوص الكتاب والسنة، وما عليه إجماع الأمة، فإن الله جعل الذين أنعم عليهم أربعة ‏:‏ النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين‏.‏

فغاية من بعد النبي أن يكون صديقًا، كما كان خير هذه الأمة بعد نبيها صديقًا؛ ولهذا كانت غاية مريم ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ

الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ‏}‏ ‏[‏المائدة ‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وبهذا استدللت على ما ذكره طائفة‏:‏ كالقاضي أبي يعلى، وغيره من أصحابنا، وأبي المعالي، وأظن الباقلاني، من الإجماع على أنها لم تكن نبية ليقرروا كرامات الأولياء، بماجرى على يديها، فإن بعض الناس زعم أنها كانت نبية، فاستدللت بهذه الآية، ففرح مخاطبي بهذه الحجة، فإن الله ذكر ذلك في بيان غاية فضلها، دفعًا لغلو النصارى فيها، كما /يقال لمن ادعى في رجل أنه ملك من الملوك، أو غني من الأغنياء ونحو ذلك، فيقال‏:‏ ما هو إلا رئيس قرية، أو صاحب بستان، فيذكر غاية ما له من الرئاسة والمال، فلو كان للمسيح مرتبة فوق الرسالة أو لها مرتبة فوق الصديقية لذكرت‏.‏

ولهذا كان أصل الغلو في النصارى، ويشابههم في بعضه غالية المتصوفة والشيعة، ومن انضم إليهم من الصابئة المتفلسفة، فالرد عليهم من جهة واحدة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر‏:‏ ‏(‏هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين‏)‏ فهذه المسألة لشرحها موضع غير هذا وهي أن كل من سوى الأنبياء دونهم‏.‏

وإنما الكلام هنا فيما يذكرونه من خاتم /الأولياء، فنقول ‏:‏ هذه تسمية باطلة، لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا كلام مأثور عمن هو مقبول عند الأمة قبولا عاما، لكن يعلم من حيث الجملة أن آخر من بقى من المؤمنين المتقين في العالم فهو آخر أولياء الله‏.‏

ونقول ثانيًا‏:‏ إن آخر الأولياء، أو خاتمهم، سواء كان المحقق، أو فرض مقدر، ليس يجب أن يكون أفضل من غيره من الأولياء ، فضلا عن أن يكون أفضلهم، وإنما نشأ هذا من مجرد القياس على خاتم الأنبياء، لما رأوا خاتم الأنبياء هو سيدهم‏.‏ توهموا من ذلك قياسا بمجرد الاشتراك في لفظ خاتم‏.‏ فقالوا‏:‏ خاتم الأولياء أفضلهم‏.‏ وهذا خطأ في الاستدلال، فإن فضل خاتم الأنبياء عليهم لم يكن لمجرد كونه خاتمًا، بل لأدلة أخرى دلت على ذلك‏.‏

ثم نقول‏:‏ بل أول الأولياء في هذه الأمة، وسابقهم هو أفضلهم، فإن أفضل الأمة خاتم الأنبياء‏.‏ وأفضل الأولياء سابقهم إلى خاتم الأنبياء، وذلك لأن الولي مستفيد من النبي وتابع له، فكلما قرب من النبي كان أفضل وكلما بعد عنه كان بالعكس، بخلاف خاتم الأنبياء فإن استفادته إنما هي من الله‏.‏ فليس في تأخره زمانا ما يوجب تأخر مرتبته، بل قد يجمع الله له ما فرقه في غيره من الأنبياء، فهذا الأمر الذي ذكرنـاه من أن السابقين من الأولياء هم خيرهم‏.‏ هو الذي دل عليه الكتاب والسنن المتواترة وإجماع السلف، ويتصل بهذا ظن طوائف أن من المتأخرين من قد يكون أفضل من أفاضل الصحابة‏.‏ ويوجد هذا في المنتسبين إلى العلم، وإلى العبادة، وإلى الجهاد، والإمارة، والملك‏.‏ حتى في المتفقهة من قال‏:‏ أبو حنيفة أفقه من علي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر‏.‏

ويتمسكون تارة بشبهة عقلية، أو ذوقية، من جهة أن متأخري كل فن يحكمونه أكثر من المتقدمين‏.‏ فإنهم يستفيدون علوم الأولين مع العلوم التي اختصوا بها، كما هو موجود في أهل الحساب، والطبائعيين والمنجمين وغيرهم‏.‏

/ومن جهة الذوق، وهو ما وجدوه لأواخر الصالحين، من المشاهدات العرفانية، والكرامات الخارقة، ما لم ينقل مثله عن السلف، وتارة يستدلون بشبه نقلية مثل قوله‏:‏ ‏(‏للعامل منهم أجر خمسين منكم‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره‏)‏، وهذا خلاف السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود، وعمران ابن حصين ومما هو في الصحيحين، أو أحدهما، من قوله‏:‏‏(‏خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏ وقوله ‏:‏‏(‏والذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه‏)‏ وغير ذلك من الأحاديث‏.‏

وخلاف إجماع السلف ‏:‏ كقول ابن مسعود‏:‏ إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد‏.‏ وقول حذيفة‏:‏ يا معشر القراء، استقيموا، وخذوا سبيل من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا ‏.‏وقول ابن مسعود‏:‏ من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبًا، /وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم‏.‏ وقول جندب وغيره مما هو كثير مكتوب في غير هذا الموضع، بل خلاف نصوص القرآن في مثل قوله‏:‏‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏100‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ‏}‏ الآية ‏[‏الحديد ‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏10‏]‏، وغير ذلك، فإنه لم يكن الغرض بهذا الموضع هذه المسألة، وإنما الغرض ‏:‏ الكلام على خاتم الأولياء‏.‏

ومما يشبه هذا ظن طائفة كابن هود، وابن سبعين، والنفري والتلمساني‏:‏ إن الشىء المتأخر ينبغي أن يكون أفضل من المتقدم، لاعتقادهم أن العالم متنقل من الابتداء إلى الانتهاء، كالصبي الذي يكبر بعد صغره، والنبات الذي ينمو بعد ضعفه، ويبنون على ذلك أن المسيح أفضل من موسى، ويبعدون ذلك إلى أن يجعلوا بعد محمد واحدًا من البشر أكمل منه، كما تقوله الإسماعيلية، والقرامطة، والباطنية، فليس على هذا دليل أصلا‏.‏ إن كل من تأخر زمانه من نوع، يكون أفضل ذلك النوع، فلا هو مطرد ولا منعكس‏.‏

بل إبراهيم الخليل قد ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه خير البرية‏)‏ أي بعد النبي‏.‏ وكذلك قال الربيع بن خيثم‏:‏ لا أفضل على نبينا أحدًا، /ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدًا، وبعده جميع الأنبياء المتبعين لملته مثل موسى وعيسى وغيرهما، وكذلك أنبياء بني إسرائيل كلهم بعد موسى، وقد أجمع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى‏:‏ على أن موسى أفضل من غيره من أنبياء بني إسرائيل، إلا ما يتنازعون فيه من المسيح‏.‏

والقرآن قد شهد في آيتين لأولى العزم فقال في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ فهؤلاء الخمسة أولو العزم، وهم الذين قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحاح ‏:‏ أنهم يترادون الشفاعة في أهل الموقف بعد آدم‏.‏ فيجب تفضيلهم على بنيهم، وفيه تفضيل لمتقدم على متأخر، ولمتأخر على متقدم‏.‏

وأصل الغلط في هذا الباب‏:‏ أن تفضيل الأنبياء، أو الأولياء أو العلماء أو الأمراء بالتقدم في الزمان، أو التأخر أصل باطل، فتارة يكون الفضل في متقدم النوع، وتارة في متأخر النوع، ولهذا يوجد في أهل النحو، والطب والحساب ما يفضل فيه المتقدم كبطليموس، وسيبويه، وبقراط وتارة بالعكس‏.‏

/وأما توهمهم أن متأخري كل فن أحذق من متقدميه، لأنهم كملوه، فهذا منتقض أولا، ليس بمطرد، فإن كتاب سيبويه في العربية لم يصنف بعده مثله، بل وكتاب بطليموس، بل نصوص بقراط لم يصنف بعدها أكمل منها‏.‏

ثم نقول‏:‏ هذا قد يسلم في الفنون التي تنال‏:‏ بالقياس، والرأي والحيلة‏.‏ أما الفضائل المتعلقة باتباع الأنبياء فكل من كان إلى الأنبياء أقرب مع كمال فطرته‏:‏ كان تلقيه عنهم أعظم، وما يحسن فيه هو من الفضائل الدينية، المأخوذة عن الأنبياء، ولهذا كان من يخالف ذلك هو من المبتدعة، الخارج عن سنن الأنبياء، المعتقد أن له نصيبًا من العلوم والأحوال خارجًا عن طور الأنبياء، فكل من كان بالنبوة وقدرها أعظم، كان رسوخه في هذه المسألة أشد ‏.‏

وأما الأذواق والكرامات فمنها ما هو باطل، والحق منه كان للسلف أكمل، وأفضل بلا شك، وخرق العادة تارة يكون لحاجة العبد إلى ذلك، وقد يكون أفضل منه لا تخرق له تلك العادة، فإن خرقها له سبب، وله غاية، فالكامل قد يرتقى عن ذلك السبب، وقد لا يحتاج إلى تلك الغاية المقصودة بها، ومع هذا فما للمتأخرين كرامة إلا وللسلف من نوعها ما هو أكمل منها‏.‏

/وأما قوله‏:‏ ‏(‏لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون على الخير أعوانًا‏)‏ فهذا صحيح، إذا عمل الواحد من المتأخرين، مثل عمل عمله بعض المتقدمين كان له أجر خمسين، لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين، كأبي بكر وعمر، فإنه ما بقى يبعث نبي مثل محمد، يعمل معه مثلما عملوا مع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره‏)‏، مع أن فيه لينا فمعناه‏:‏ في المتأخرين ما يشبه المتقدمين، ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة، لا يدري الذي ينظر إليه، أهذا خير أم هذا‏؟‏ وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيرًا‏.‏ فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين، كما جاء في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏خير أمتي أولها وآخرها‏.‏ وبين ذلك ثبج أو عوج‏.‏ وددت أني رأيت إخواني‏)‏ قالوا‏:‏ أو لسنا إخوانك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أنتم أصحابي‏)‏ هو تفضيل للصحابة، فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الأخوة‏.‏

وكذلك قوله‏:‏‏(‏أي الناس أعجب إيمانًا‏)‏ إلى قوله‏:‏‏(‏قوم يأتون بعدي يؤمنون بالورق المعلق‏)‏ هو يدل على أن إيمانهم عجب، أعجب من إيمان غيرهم، ولا يدل على أنهم أفضل، فإن في الحديث أنهم /ذكروا الملائكة والأنبياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق‏.‏

ونظيره كون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فإنه لا يدل على أنهم بعد الدخول يكونون أرفع مرتبة من جميع الأغنياء، وإنما سبقوا لسلامتهم من الحساب‏.‏

وهذا ـ باب التفضيل بين الأنواع في الأعيان، والأعمال والصفات أو بين أشخاص النوع ـ باب عظيم، يغلط فيه خلق كثير، والله يهدينا سواء الصراط‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ‏:‏

 فصــل

تكلم أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏ بكلام مردود، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، حيث غلا في ذكر الولاية، وما ذكره من خاتم الأولياء، وعصمة الأولياء ونحو ذلك مما هو مقدمة لضلال ابن عربي، وأمثاله، الذين تكلموا في هذا الباب بالباطل والعدوان، منها قوله‏:‏

فيقال لهذا المسكين ‏:‏ صف لنا منازل الأولياء ـ إذا استفرغوا مجهود الصدق ـ كم عدد منازلهم ‏؟‏ وأين منازل أهل الفرية ‏؟‏ وأين الذين جازوا العساكر ‏؟‏ بأي شىء جازوا ‏؟‏ وإلى أين منتهاهم‏؟‏ وأين مقام أهل المجالس والحديث‏؟‏ وكم عددهم‏؟‏ وبأي شىء استوجبوا هذا على ربهم‏؟‏ وما حديثهم ونجواهم‏؟‏ وبأي شىء يفتتحون المناجاة ‏؟‏ وبأي / شىء يختمونها‏؟‏ وماذا يخافون ‏؟‏ وكيف يكون صفة سيرهم‏؟‏ ومن ذا الذي يستحق خاتم الولاية كما استحق محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة ‏؟‏ وبأي صفة يكون ذلك المستحق لذلك ‏؟‏ وما سبب وكم مجالس هذه الأبدان حتى ترد إلى مالك الملك‏؟‏ إلى مسائل أخر كثيرة ذكرها من هذا النمط‏.‏

ومنها فيه‏:‏ قال له قائل ‏:‏ فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما‏؟‏ قال ‏:‏ إن كنت تعني في العمل فلا، وإن كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع، وذلك أن الدرجات بوسائل القلوب، وتسمية ما في الدرجات بالأعمال فمن الذي حوّل رحمة الله عن أهل هذا الزمان حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مجتبى، ولا مصطفى، أو ليس المهدي كائنًا في آخر الزمان‏؟‏ فهو في الفتنة يقوم بالعدل، فلا يعجز عنها‏.‏ أو ليس كائنًا في آخر الزمان من له ختم الولاية‏؟‏ وهو حجة الله على جميع الأولياء يوم الموقف‏؟‏ فكما أن محمدًا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فأعطى ختم النبوة وهو حجة الله على جميع الأنبياء، فكذلك هذا الولي آخر الأولياء في آخر الزمان‏.‏

/قال له قائل ‏:‏ فأين حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خرجت من باب الجنة، فأُتيت بالميزان فوضعت في كفة، وأمتي في كفة فرجحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر مكاني فرجح بالأمة‏.‏ثم وضع عمر مكان أبي بكر فرجح بالأمة‏)‏‏.‏ فقال ‏:‏ هذا وزن الأعمال، لا وزن ما في القلوب، أين يذهب بكم يا عجم‏؟‏ ما هذا إلا من غباوة أفهامكم‏.‏ ألا ترى أنه يقول‏:‏ خرجت من باب الجنة، والجنة للأعمال، والدرجات للقلوب؛ والوزن للأعمال، لا لما في القلوب، إن الميزان لا يتسع لما في القلوب‏.‏

وقال فيه ‏:‏ ثم لما قبض الله نبيه صير فيهم أربعين صديقًا؛ بهم تقوم الأرض فهم أهل بيته، وهم آله، فكلما مات منهم رجل خلفه من يقوم مقامه؛ حتى إذا انقرض عددهم، وأتى وقت زوال الدنيا؛ بعث الله وليًا اصطفاه واجتباه وقربه وأدناه وأعطاه ما أعطى الأولياء وخصه بخاتم الولاية، فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء‏.‏ فيوجد عنده ذلك الختم صدق الولاية، على سبيل ما وجد عند محمد صلى الله عليه وسلم صدق النبوة؛ لم ينله القدر، ولا وجدت النفس سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية، فإذا برز الأولياء يوم القيامة، وأقبضوا صدق الولاية والعبودية، وجد ألوفًا عند هذا الذي ختم الولاية تمامًا؛ فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم، /وكان شفيعهم يوم القيامة، فهو سيدهم‏.‏ ساد الأولياء كما ساد محمد صلى الله عليه وسلم الأنبياء، فينصب له مقام الشفاعة، ويثنى على الله ثناء، ويحمده بمحامد يقر الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله، فلم يزل هذا الولي مذكورًا أولًا في البدء أولا في الذكر، وأولا في العلم، ثم الأول في المسألة، ثم الأول في الموازنة، ثم الأول في اللوح المحفوظ، ثم الأول في الميثاق، ثم الأول في الحشر، ثم الأول في الخطاب، ثم الأول في الوفادة، ثم الأول في الشفاعة، ثم الأول في الجواز وفي دخول الدار، ثم الأول في الزيارة، فهو في كل مكان أول الأولياء، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء، فهو من محمد صلى الله عليه وسلم عند الأذن، والأولياء عند القفا‏.‏

فهذا عند مقامه بين يديه في ملك الله ونجواه، مثال في المجلس الأعظم، فهو في منصته، والأولياء من خلفه درجة درجة، ومنازل الأنبياء مثال بين عينيه، فهؤلاء الأربعون في كل وقت هم أهل بيته‏.‏ ولست أعنى من النسب، إنما أهل بيت الذكر‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ‏:‏

 فصــل

قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل ‏:‏ مسألة‏:‏ ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافًا للأشعرية في قولهم‏:‏ لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول‏.‏

وقال ‏:‏ نحن لا نمنع صحة النظر، ولانمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا هل تحصل بغيره، واستدل بأن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجزة علمنا أن هناك مرسلًا أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلا وهناك مرسل، وإذا ثبت أن هناك مرسلا أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته‏.‏

/وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ما ذكره الخطابي أيضًا في ‏(‏الغنية عن الكلام وأهله‏)‏ وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة؛ لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول، وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال‏:‏ من خلق السماء وغير ذلك‏؟‏

قلت‏:‏ كثير من المتكلمين يقولون‏:‏ لابد أن تتقدم المعرفة أولا بثبوت الرب وصفاته التي يعلم بها أنه هو، ويظهر المعجزة، وإلا تعذر الاستدلال بها على صدق الرسول، فضلا عن وجود الرب‏.‏

وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكرا للرب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا‏}‏ إلى قوله ‏:‏‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16-33‏]‏ ‏.‏

فهنا ‏:‏ قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلًا على صدقه في كونه رسول رب العالمين‏.‏ وفي أن له إلها غير فرعون يتخذه‏.‏ وكذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَّ‏}‏ ‏[‏ هود ‏:‏ 14 ‏]‏ فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة ـ التي هي فعل خارق للعادة ـ تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك، لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الرب عندها، ويمجد ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبين أنها تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتتقرر بها الربوبية والرسالة، لاسيما عند من يقول ‏:‏ دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية، كما هو قول طائفة من متكلمي المعتزلة ‏:‏ كالجاحظ، وطوائف من غيرهم، كالأشعرية والحنبلية الذين يقولون ‏:‏ يحصل الفرق بين المعجزة والسحر والكرامة بالضرورة‏.‏

/ومن يقول ‏:‏ إن شهادة المعجزة على صدق النبي معلوم بالضرورة، وهم كثير من الأشعرية والحنبلية، وكثير من هؤلاء يقول‏:‏ لأن عدم دلالتها على الصدق مستلزم عجز البارئ، إذ لا طريق سواها‏.‏

وأما المعتزلة ‏:‏ فلأن عندهم أن ذلك قبيح، لا يجوز من الباري فعله‏.‏ والأولون يقولون‏:‏ ليس‏.‏ كأمور كثيرة جدًا، وقد بينت في غير هذا الموضع أن العلم موجود ضروري، وهو الذي عليه جمهور‏.‏

/ وسئل ‏:‏

أيما أولى ‏:‏ معالجة ما يكره الله من قلبك مثل ‏:‏الحسد والحقد والغل والكبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب، وغير ذلك، مما يختص بالقلب من درنه، وخبثه‏؟‏ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة‏:‏ من الصلاة والصيام وأنواع القربات‏:‏ من النوافل والمنذورات مع وجود تلك الأمور في قلبه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب ـ رحمه الله ـ‏:‏

الحمد لله‏.‏ من ذلك ما هو عليه واجب ‏:‏ وأن للأوجب فضل وزيادة‏.‏ كما قال تعالى فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‏)‏ والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك، والأعضاء جنوده‏.‏ فإذا خبث الملك خبثت جنوده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏(‏ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله‏)‏ وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد‏.‏ وإذا كان المقدم هو الأوجب، سواء سمى /باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يسمى باطنًا أوجب مثل ترك الحسد والكبر فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام، وقد يكون ما سمى ظاهرًا أفضل‏:‏ مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها، وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخشوع، ونحو ذلك من الآثار العظيمة‏:‏ هي أفضل الأعمال والصدقة‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل ‏:‏

هل قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏زدني فيك تحيرًا‏؟‏‏)‏، وقال بعض العارفين‏:‏ أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة‏.‏ قيل ‏:‏ من أين تقع الحيرة‏؟‏ قيل ‏:‏ من معنيين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ كثرة اختلاف الأحوال عليه‏.‏ والآخر‏:‏ شدة الشر، وحذر الإياس‏.‏ وقال الواسطي‏:‏ نازلة تنزل بقلوب العارفين بين الإياس والطمع لا تطمعهم في الوصل فيستريحون، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون، وقال بعضهم‏:‏ متى أصل إلى طريق الراجين، وأنا مقيم في حيرة المتحيرين‏؟‏‏.‏ وقال محمد بن الفضل العارف‏:‏ كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة‏.‏ وقال ‏:‏ أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا‏.‏ وقال الجنيد ‏:‏ انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة‏.‏ وقال ذو النون ‏[‏ذو النون المصري هو ‏:‏ثوبان بن إبراهيم، وقيل ‏:‏ فيض بن أحمد، وقيل‏:‏ فيض بن إبراهيم النوبي الأخميمي، يكني أبا الفيض، ولد في أواخر أيام المنصور‏.‏ روى عن مالك، والليث، وابن لهيعة وغيرهم، وروى عنه أحمد بن صحيح الفيومي، وربيعة بن محمد الطائي وغيرهم، وقلَّ ما روى من الحديث، ولا كان يتقنه‏.‏ وقال الدارقطني ‏:‏ روى عن مالك أحاديث فيها نظر‏.‏ وكان واعظًا‏.‏ قال ابن يونس ‏:‏ كان عالمًا فصيحًا حكيما‏.‏ توفى في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومئتين‏.‏ ‏[‏سير أعلام النبلاء ‏:‏ 11/532‏:‏ 536‏]‏‏.‏‏:‏ غاية العارفين التحير‏.‏ وأنشد بعضهم ‏:‏

قد تحيرت فيك خذ بيدي ** يا دليلا لمن تحير فــــــــــــيه

فبينوا لنا القول في ذلك بيانًا شافيًا ‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، هذا الكلام المذكور‏:‏ ‏(‏زدني فيك تحيرًا‏)‏ من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وإنما يرويه جاهل أو ملحد، فإن هذا الكلام يقتضي أنه كان حائرا، وأنه سأل الزيادة في الحيرة، وكلاهما باطل، فإن الله هداه بما أوحاه إليه وعلمه ما لم يكن يعلم، وأمره بسؤال الزيادة من العلم بقوله‏:‏ ‏{‏رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏114‏]‏ وهذا يقتضي أنه كان عالمًا، وأنه أمر بطلب المزيد من العلم، ولذلك أمر هو والمؤمنون بطلب الهداية في قوله‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة ‏:‏6‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏52‏]‏، فمن يهدي الخلق كيف يكون حائرًا ‏؟‏ والله قد ذم الحيرة في القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وفي الجملة، فالحيرة من جنس الجهل والضلال، ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق علمًا بالله وبأمره، وأكمل الخلق اهتداء في نفسه، وهديا لغيره، وأبعد الخلق عن الجهل والضلال‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏}‏‏[‏النجم‏:‏ 1-3‏]‏، وقال تعالى‏:‏/‏{‏الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏‏[‏إبراهيم ‏:‏1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ‏}‏ إلى قوله ‏:‏ ‏{‏فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏213‏]‏ فالله قد هدى المؤمنين به، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏28‏]‏ فقد كفل الله لمن آمن به أن يجعل له نورًا يمشي به‏.‏ كما قال تعالى‏:‏‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏122‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏، ومثل هذا كثير في القرآن والحديث‏.‏

ولم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم والإيمان، ولكن مدحها طائفة من الملاحدة‏:‏ كصاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ ابن عربي وأمثاله من الملاحدة، الذين هم حيارى، فمدحوا الحيرة وجعلوها أفضل من الاستقامة، وادعوا أنهم أكمل الخلق، وأن خاتم الأولياء منهم يكون أفضل في العلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله منهم، وكانوا في /ذلك‏.‏ كما يقال فيمن قال‏:‏ ‏[‏فخر عليهم السقف من تحتهم‏]‏ لا عقل ولا قرآن، فإن الأنبياء أقدم، فكيف يستفيد المتقدم من المتأخر، وهم عند المسلمين واليهود والنصارى ليسوا أفضل من الأنبياء، فخرج هؤلاء عن العقل والدين‏:‏ دين المسلمين واليهود والنصارى‏.‏ وهؤلاء قد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع‏.‏

ولهم في‏:‏ ‏[‏وحدة الوجود والحلول والاتحاد‏]‏ كلام من شر كلام أهل الإلحاد، وأما غير هؤلاء من الشيوخ الذين يذكرون الحيرة ‏:‏ فإن كان الرجل منهم يخبر عن حيرته، فهذا لايقتضي مدح الحيرة، بل الحائر مأمور بطلب الهدى، كما نقل عن الإمام أحمد أنه علم رجلا أن يدعو يقول‏:‏ يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين‏.‏

فأما الذي قال ‏:‏ أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة، فقد يريد بذلك معنى صحيحًا مثل أن يريد‏:‏ أن الطالب السالك يكون حائرًا قبل حصول المعرفة والهدى، فإن كل طالب للعلم والهدى هو قبل حصول مطلوبه في نوع من الحيرة، وقوله‏:‏ آخرها الحيرة، قد يراد به أنه لا يزال طالب الهدى والعلم، فهو بالنسبة إلى ما لم يصل إليه حائر، وليس في ذلك مدح الحيرة، ولكن يراد به أنه لابد أن يعترى الإنسان نوع من الحيرة التي يحتاج معها إلى العلم والهدى ‏.‏

/وقوله‏:‏ والحيرة من معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ كثرة اختلاف الأحوال‏.‏ والآخر‏:‏ شدة الشر، وحذر الإياس، إخبار عن سلوك معين، فإنه ليس كل سالك يعتريه هذا، ولكن من السالكين من تختلف عليه الأحوال، حتى لا يدري ما يقبل وما يرد وما يفعل وما يترك، والواجب على من كان كذلك دوام الدعاء لله سبحانه وتعالى، والتضرع إليه والاستهداء بالكتاب والسنة‏.‏

وكذلك بشدة الشر وحذر الإياس، فإن في السالكين من يبتلى بأمور من المخالفات يخاف معها أن يصير إلى اليأس من رحمة الله، لقوة خوفه وكثرة المخالفة عند نفسه، ومثل هذا ينبغي أن يعلم سعة رحمة الله، وقبول التوبة من عباده وفرحه بذلك‏.‏

وقول الآخر ‏:‏ نازلة تنزل بقلوب العارفين بين اليأس والطمع، فلا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا، فيقال‏:‏ هذا أيضًا حال عارض لبعض السالكين، ليس هذا أمرًا لازمًا لكل من سلك طريق الله، ولا هو أيضًا غاية محمودة ولكن بعض السالكين يعرض له هذا‏.‏ كما يذكر عن الشبلي ‏[‏الشِّبْليُّ ‏:‏ قيل‏:‏ اسمه دلف بن جحدر، وقيل‏:‏ جعفر بن يونس، شيخ الطائفة، أبو بكر، الشبلي البغدادي‏.‏ أصله من الشبلية قرية‏.‏ ومولده بسامراء‏.‏ كان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة‏.‏ وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسكر‏.‏ فيقول أشياء يعتذر عنه‏.‏ توفى ببغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة‏.‏ عن نيف وثمانين سنة‏.‏ ‏[‏سير أعلام النبلاء 51/367‏:‏ 369‏]‏، أنه كان ينشد في هذا المعنى‏:‏

/أظلت علينا منك يومًا سحابة ** أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشـها

فلا غيمها يجـلو فييأس طــامع ** ولا غيثها يأتي فيروي عطاشـها

وصاحب هذا الكلام إلى أن يعفو الله عنه ويغفر له مثل هذا الكلام أحوج منه إلى أن يمدح عليه أو يقتدى به فيه، ومثل هذا كثير قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع، لما تكلمنا على ما يعرض لطائفة من كلام فيه معاتبة لجانب الربوبية، وإقامة حجة عليه بالمجنون المتحير، وإقامة عذر المحب، وأمور تشبه هذا، قد تحيز من قال بموجبها إلى الكفر والإلحاد، إذ الواجب الإقرار لله بفضله وجوده وإحسانه، وللنفس بالتقصير والذنب‏.‏ كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن يقول العبد ‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏)‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح الإلهي‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى ‏:‏ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه‏)‏‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ /‏(‏يقول الله ‏:‏ من تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعَا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني‏)‏ وقد ثبت ‏:‏ أن الله تعالى كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وقد ثبت من حكمته ورحمته وعدله ما يبهر العقول؛ لأن هذه المسألة تتعلق بأصول كبار من مسائل ‏[‏القدر‏]‏ و‏[‏الأمر‏]‏ و‏[‏الوعد‏]‏ و‏[‏الوعيد‏]‏ و‏[‏الأسماء والصفات‏]‏ قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا ‏:‏ الكلام على ما ذكر عن هؤلاء الشيوخ، فقول القائل‏:‏ لا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا‏.‏ هي حال عارض لشخص قد تعلقت همته بمطلوب معين وهو يتردد فيه بين اليأس والطمع، وهذا حال مذموم، لأن العبد لا ينبغي له أن يقترح على الله شيئًا معينًا، بل تكون همته فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور‏.‏ فمتى أعين على هذه الثلاثة جاء بعد ذلك من المطالب‏:‏ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‏.‏ ولو تعلقت همته بمطلوب فدعا الله به فإن الله يعطيه إحدى خصال ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها‏.‏

ولفظ ‏[‏الوصول‏]‏ لفظ مجمل؛ فإنه ما من سالك إلا وله غاية /يصل إليها‏.‏ وإذا قيل‏:‏ وصل إلى الله، أو إلى توحيده أو معرفته أو نحو ذلك، ففي ذلك من الأنواع المتنوعة والدرجات المتباينة ما لا يحصيه إلا الله تعالى‏.‏

ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله ويرضاه من معرفته وتوحيده كبيرة من الكبائر، بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه‏.‏ لكن من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف من شىء هرب منه، وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال، وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ولا يحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏69‏]‏ وعليه بإقامة الفرائض ظاهرًا وباطنًا، ولزوم الصراط المستقيم مستعينًا بالله، متبرئًا من الحول والقوة إلا به‏.‏

ففي الجملة ليس لأحد أن ييأس، بل عليه أن يرجو رحمة الله كما أنه ليس له ألا ييأس، بل عليه أن يخاف عذابه‏.‏ قال تعالى ‏:‏‏{‏أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏ قال بعضهم‏:‏ من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو /حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد‏.‏

وأما قول القائل ‏:‏ متى أصل إلى طريق الراجين‏؟‏ وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؛ فهذا إخبار منه عن حال مذموم هو فيها، كما يخبر الرجل عن نقص إيمانه، وضعف عرفانه، وريب في يقينه، وليس مثل هذا مما يطلب، بل هو مما يستعاذ بالله منه‏.‏

وأما قول محمد بن الفضل‏:‏ أنه قال‏:‏ العارف كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة‏.‏ فهذا قد يراد به أنه كلما انتقل إلى مقام من المعرفة واليقين حصل له تشوق إلى مقام لم يصل إليه من المعرفة، فهو حائر بالنسبة إلى ما لم يصل إليه دون ما وصل إليه‏.‏

وقوله‏:‏ أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا، أي أطلبهم لزيادة العلم والمعرفة؛ فإن كثرة علمه ومعرفته توجب له الشعور بأمور لم يعرفها بعد، بل هو حائر فيها طالب لمعرفتها والعلم بها، ولا ريب أن أعلم الخلق بالله قد قال‏:‏ ‏(‏لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏ والخلق ما أتوا من العلم إلا قليلًا‏.‏

وما نقل عن ‏[‏الجنيد‏]‏ أنه قال‏:‏انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة؛/فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد، وفيه نظر، هل قاله ‏؟‏‏!‏ ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود، فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه، لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل لهم يقين ومعرفة وهدى وعلم، فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، وهذا الكلام مردود على من قاله‏.‏

لكن إذا قيل‏:‏ إن أهل المعرفة مهما حصلوا من المعرفة واليقين والهدى فهناك أمور لم يصلوا إليها فهذا صحيح‏.‏ كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم في صحيحه‏:‏ ‏(‏اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏من قال هذا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا‏)‏ فقد أخبر أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده وهذه لا يعلمها ملك ولا بشر‏.‏

فإذا أراد المريد أن عقول العقلاء لم تصل إلى معرفة مثل هذه الأمور فهذا صحيح، وأما إذا أراد أن العقلاء ليس عندهم علم ولا يقين بل حيرة وريب، فهذا باطل قطعًا‏.‏

وما ذكر عن ‏[‏ذي النون‏]‏ في هذا الباب، مع أن ذا النون قد وقع منه كلام أنكر عليه، وعزره الحارث بن مسكين، وطلبه /المتوكل إلى بغداد واتهم بالزندقة، وجعله الناس من الفلاسفة، فما أدري هل قال هذا أم لا‏؟‏ بخلاف الجنيد فإن الاستقامة والمتابعة غالبة عليه، وإن كان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ثم معصوم من الخطأ غير الرسول، لكن الشيوخ الذين عرف صحة طريقتهم علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل والدين‏.‏ وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة، والله أعلم‏.‏